كيف إيقاعك اليوم؟

اليوم أجرب الحياة البطيئة، أترك الشاي مع اللبن على نار هادئة، وأذهب لأضع الخبز المفتت لطيور الشباك، أراقبها، أنزل إلى الشارع وأنظر لأعلى ربما تريد السماء أن تقول لي شيئًا، أشاهد ظلال بوابات المنازل والأشجار، وقد ألتقط أوراقًا أضمها إلى مجموعتي من مقتنيات الطبيعة.

في إيطاليا ١٩٨٦ نشأت حركة عُرفت باسم “الوجبات البطيئة”[1] مناهضة لانتشار ثقافة “الوجبات السريعة” وما يتبعها من مشكلات صحية وطعام مهدر وزوال المطبخ التقليدي تدريجيًا. بدأت الحركة ردًا على افتتاح مطعم ماكدونالدز بالقرب من السلالم الإسبانية في روما، وكانت أولى أشكال ما عُرف لاحقًا باسم “حركة البطء” التي تفرعت منها الموضة البطيئة والسينما البطيئة والطب البطيء والحياة البطيئة، وغيرها.

جاء أسلوب الحياة البطيئة اعتراضًا على عالم ما بعد الثورة الصناعية حيث لم تعد فترة العمل مقتصرة على ساعات الصباح، وأصبح أصحاب المصانع يطالبون العمال بتشغيل الآلات لأطول فترة ممكنة لتحقيق أقصى ربح، وهكذا ازدادت ساعات العمل حتى وصلت إلى ١٦ ساعة يوميًا وستة أيام أسبوعيًا[2]. الحياة البطيئة ليست على الجانب الآخر تمامًا، فليس المقصود منها أن يكون المرء غير منتج، أو حتى يتمهل في كل ما يفعله، وإنما أن يكون واعيًا بإيقاعه، أن يختار كيف يُسير يومه بدلًا من أن يقضيه لاهثًا وراء مهام عليه إنجازها أو يتهرب من أخرى، أن تكون لديه الفرصة لملاحظة ما حوله واستعادة تواصله مع العالم. يعرِّف كارل أونوريه، الصحفي الكندي ومؤلف كتاب “في مديح البطء”، أسلوب الحياة البطيئة:

“إنه ثورة ثقافية ضد فكرة أن الأسرع هو دائمًا الأفضل. لا تعني فلسفة البطء أن تفعل كل شيء بسرعة حلزون، وإنما أن تسعى لفعل كل شيء بالسرعة المناسبة. أن تستمتع بالساعات والدقائق بدلًا من أن تعدها وتؤدي مهامك بأفضل طريقة ممكنة لا بأسرع طريقة ممكنة.”[3]

يحكي أونوريه أنه كان مدمن سرعة حتى أدرك أنه بدأ يتهرب من وقت حكاية قبل النوم مع ابنه، يتجاوز الأسطر والصفحات، يريد أن ينتهي من هذا سريعًا، لدرجة أصبح معها هذا الوقت مصدر توتر لكليهما، كان هذا بمثابة جرس الإنذار له. وقد يأتينا جرس الإنذار في صورة مرض جسدي أو نفسي أو نفسجسمي أو شعور بالانفصال عن محيطنا. يعترف أونوريه بصعوبة تبني أسلوب الحياة البطيئة، عن جاذبية السرعة وجرعة الأدرينالين التي تضخها. هناك إغراء غير صريح بأن ننشغل دائمًا لكي نلهي أنفسنا عن التفكير والتساؤل، ناهيك عن الالتزامات التي صارت تحاصرنا وتدفع بنا في قطار السرعة، خاصة وأن البطء قد ارتبط لدينا بالتأخر والفشل. لكن أسلوب الحياة البطيئة يَقصد البطء من النوع الجيد: أن تنظر إلى مشكلة من كافة جوانبها فتصل إلى قرار أفضل، تنصت إلى شخص تحبه فتتوطد علاقتكما، أو فقط تتمهل في فعل يومي روتيني لتفعله باهتمام وتستمتع به بدلًا من أن يصيبك بالملل.

مدن بطيئة

نشأ عن “حركة البطء” أيضًا ما يعرف بحركة “سيتا سلو” أو المدن البطيئة” التي بدأت في ١٩٩٩ بعدد ٢٨ مدينة إيطالية، وتضم حاليًا ٢٧٦ مدينة من ٣٠ دولة حول العالم. تصف الحركة نفسها على موقعها الرسمي بـ “الشبكة الدولية لمدن يطيب فيها العيش”، وتعلن في البيان العام لها عن سبب نشأتها وشكل المدينة البطيئة بتعريفها:[4]

“في البدء أطعم الإنسان نفسه. ثم سعى نحو الملاذ والحماية: تأسست المنازل والقرى والمدن.

أخيرًا، جاء زمن الآلة بإيقاعات حياة محمومة مهتاجة متصاعدة دومًا.

اليوم، يحلم الإنسان بالتحرر من دواعي القلق الكثيرة التي قد خلقها تقدمه.

يبحث عن طريقة حياة أكثر سكينة وهدوءًا وتأملًا. وفي نهاية القرن العشرين المتناقض المضطرب، ينشد الإنسان الخلاص في نموذج ‘مدن يطيب فيها العيش’.

[…]

إنها مدن مفعمة بأناس ‘لديهم فضول حول استعادة الوقت’، غنية بميادين ومسارح وورش عمل ومقاهي ومطاعم وساحات طقوس روحانية ومناظر طبيعية نقية وحرفيين مذهلين. مدن لا نزال نقدر فيها البطء، التعاقب الطيب للمواسم، إيقاع منتجاتها الأصيلة، نحترم النكهات الطيبة ونعلي من شأن الصحة. مدن بعفوية طقوسها، بسحر ممارسة التقاليد فيها. هذه بهجة أسلوب حياة بطيء وهادئ وتأملي.”

ومن شروط تأهل المدينة للحصول على لقب “مدينة بطيئة” ألا يزيد عدد سكانها على ٥٠ ألف نسمة، وأن تتوفر فيها المساحات الخضراء وتعتمد على الطاقة المتجددة ووسائل النقل البديلة والتنوع المجتمعي ودمج المعاقين والفقراء والأقليات. لا تشير الشروط صراحة إلى تقليل ساعات العمل.

وأخرى فائقة السرعة

في مدينة مثل القاهرة يعني أسلوب الحياة البطيئة أن تسير في اتجاه تيار دون أن تستسلم لسرعته، تجتهد دومًا في أن تتحرك بسرعتك الخاصة لا التي يدفعك إليها، تجتهد لكي تدافع عن حقك في تقرير سرعتك.

بعد عامين قضيتهما أدرس وأعمل في مدينة هادئة، أقرب في إيقاعها وسكانها إلى منتجع سياحي بمزاياه وعيوبه، عدت إلى القاهرة فابتلعتني وظيفة في ظاهرها الإبداع وفي باطنها الروتين. بالأصح، تركتها تبتلعني، كنت أريد قالب الوقت الجاهز هذا الذي أُسقط فيه مهامي. ابتلعتني وظيفة روتينية وأحداث أصفها بالسيريالية – بعضها جرى في أحلامي فقط فعلًا، أليست هذه جزءً من حياتي؟ حياة من إذن؟ ابتلعتني وظيفة روتينية وأحداث سيريالية ودماغي، وهذه الأخيرة لا نجاة منها.

ضمن القائمة الطويلة من الأشياء التي تفرضها وظيفة ثابتة: الإيقاع. هناك دائمًا ما أريد اللحاق به، الشوارع وهي فاضية الصبح، الشاي بلبن وربما فطار سريع جدًا قبل الجلوس على المكتب، الرد على الإيميلات، إرسال الإيميلات، إنجاز تاسك قبل الديدلاين، الشوارع وهي فاضية وأنا راجعة، أتغدى عشان ألحق أكوي هدومي وأحضر أكلي لتاني يوم. الاستنزاف كلمة تليق أن أحشرها هنا وأتركها هكذا. في نهاية المطاف أجهدني هذا الإيقاع، وسمعت أكثر من جرس إنذار كان علي الاستجابة إليها. الأيام الأخيرة في العمل كانت تشبه آخر أيامي في سفرية طويلة وأنا أستعد للرجوع، أجمع أغراضي من مكتبي بالإيقاع نفسه الذي أجمع به ملابسي في الحقيبة، إيقاع هادئ يلي عاصفة وربما يسبق أخرى.

الإيقاع كبصمة إصبع

بالطريقة نفسها التي قد نتحكم بها في أصواتنا أو تتغير لأسباب خارجية أو عرض مرضي ونعود في النهاية إلى صوتنا الأصلي، هل لكل منا إيقاع يعود إليه؟ علميًا، لكل منا مشيته المتفردة للدرجة التي تجعلها تقترب من بصمة الإصبع، وقد تستخدم يومًا كأداة بيومترية مساعدة تُعتمد ضمن الصفات الفيزيائية للشخص للتحقق من هويته في المطارات والمصالح الحكومية، خاصة أنه مع الإلزام بارتداء أقنعة الوجه في تلك الأماكن كإجراء احترازي أصبح من الصعب الاعتماد على تقنيات التعرف على الوجه[5]. تُجرى أبحاث باستخدام الكاميرات والرادارات وتقنيات الذكاء الاصطناعي لتحليل أنماط حركة كل جزء في الجسد أثناء المشي لتنتج ما يعرف باسم “بصمات الحركة”، وقد أظهر بعضها معدل خطأ طفيفًا جدًا[6]. يثير ذلك أسئلة حول إمكانية خداع تلك التقنيات بتقليد إيقاع آخر، أو حول حقيقة أن إيقاعنا متغير ومتأثر بالظروف المحيطة في موقف معين وبحالاتنا المزاجية والجسدية، وما إذا كان بإمكان تلك التقنيات معرفة الإيقاع الافتراضي لشخص ما، الإيقاع الذي يتفرد به لدرجة تجعله معادلًا لبصمة إصبعه.

في أحد شوارع الدار البيضاء القديمة، كنت أتمشى مع صديقة بعد أن انتهينا من جلسة ورشة عمل. الجو لطيف، بالنسبة لي على الأقل (كان غائمًا والسحب كثيفة، هذا هو تعريف الجو اللطيف عندي)، ثم بدأت تمطر. تلقائيًا هممت بالإسراع، أو بالأصح استعدت مشيتي الطبيعية في تلك الفترة عندما كنت أخرج لشراء شيء حتى إن لم يكن هناك سبب للحصول عليه سريعًا. كان نصب عيني مظلة تخص مقهى. لكن سرعة صديقتي لم تتأثر بالمطر، حتى أنها وقفت تلتقط صورة لشجرة ذات ورود زهرية اللون. أعرفها منذ سنوات، التقينا في أكثر من بلد، وأعرف أن مشيتها لا تنفصل عن إيقاعها في الحياة اليومية ونظرتها إلى فكرة العمل، الاستمتاع بفعل العمل أكثر من الاهتمام بالثمار. وصلنا إلى المقهى بعد موائمات غير صريحة لإيقاع وسط يرضي الطرفين وجلسنا تحت المظلة نشرب الشاي وكان قد طال ملابسنا بعض المطر.

أذكر إيقاعات الناس في مواقف معينة أكثر من تعبيرات وجوههم وأصواتهم وماذا كانوا يرتدون وعما دار حديثنا. أذكر حركة يد تقلب البصل على النار ثم تذهب بسرعة لا تكاد تُدرك لتفتح الثلاجة وتسحب برطمان الصلصة وكأنها تتدرب على خدعة سحرية، صوت الضربات على لوحة المفاتيح في تلك الليلة الذي كان أبطأ من قطرات المياه المتساقطة من الصنبور، وتلك الخطوات كانت تجر دراجة وكأنها لعجوز يجر عكازه. إيقاعاتنا تقول عنا شيئًا، لذا كان مدرب الرقص الأمريكي بول تايلور يطلب من المتقدمين للانضمام إلى مدرسته أن يمشوا أمامه، كان هذا هو الاختبار الذي وضعه لهم فقد رأى أن ما قد يقوله الإيقاع عن الشخص قد لا تكشف عنه رقصة منظمة أو حديث[7]. الإيقاع ليس اعتباطيًا وإن لم يكن دائمًا واعيًا ومقصودًا، إنه نتاج تاريخ شخصي من الإحساس بالوقت والعلاقة بالمكان والمعرفة والوعي بالجسد في سياقات مختلفة ونظرتنا لأنفسنا وتصوراتنا عن الآخرين، وكل ما يدخل إلينا في لحظة ما.

كيف تكون بطيئًا؟

يقول كونديرا عن السرعة في روايته “البطء” (١٩٩٣):

“السرعة هي شكل الانخطاف الذي جعلت منه الثورة التقنية هدية للإنسان. خلافًا لسائق الدراجة النارية، يكون من يعدو حاضرًا دومًا في جسده، مرغمًا باستمرار على التفكير في مَجَله، وفي لهاثه. عندما يعدو يشعر بثقل جسده وبعمره، واعيًا أكثر من أي وقت مضى بذاته وبزمن حياته. غير أن كل شيء يتغير عندما يفوض الإنسان ملكة السرعة إلى آلة، حينها يلغي جسده، فيستكين إلى سرعة حسية مجردة، سرعة صرف، سرعة في ذاتها، هي ذاتها انخطاف.”[8]

الآن أصبحت المدينة كلها هي الآلة، وليس المقصود بالخروج من حالة الانخطاف هذه أن نترك وظائفنا لمراقبة الطيور، ولا يجب أن يرتبط أسلوب الحياة البطيئة برفاهية قد لا أستطيع تحقيقها. يمكنني من حين لآخر أن أمشي لأجل المشي، أطهو وجبة أحبها وأستمتع بتناولها، أعيد مشاهدة فيلمًا مفضلًا، أقضي وقتًا مع الأصدقاء دون النظر في الساعة، أفعل شيئًا واحدًا خلال اليوم بإيقاع أختاره. ليس هناك دليل إرشادي موحد للحياة البطيئة، ربما يكفي أن نقرر الخروج من آلة المدينة الخاطفة من وقت لآخر ونسأل أنفسنا: كيف إيقاعك اليوم؟


[1]  الموقع الرسمي لحركة “الوجبات البطيئة”: https://www.slowfood.com/about-us/

[2] https://www.striking-women.org/module/workplace-issues-past-and-present/working-hours

[3] https://thriveglobal.com/stories/why-the-slow-movement-is-gaining-momentum/

[4] الموقع الرسمي لحركة “سيتا سلو” https://www.cittaslow.org/content/cittaslow-manifesto

[5] https://www.biometricupdate.com/202009/g2e-asia-panel-sees-gait-recognition-an-emerging-biometric-security-tool

[6] https://www.financialexpress.com/industry/technology/new-ai-system-can-identify-people-from-their-walk/1183066/

[7]  https://www.dancemagazine.com/paul-taylor-dancer-2602549277.html

[8] رواية “البطء” – ميلان كونديرا، ترجمة خالد بلقاسم

One thought on “كيف إيقاعك اليوم؟

Leave a comment

Design a site like this with WordPress.com
Get started